في الدلالة على أن القرآن معجزة
قد ثبت بما بينا في الفصل الأول أن نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم مبينة على دلالة معجزة القرآن، فيجب أن نبين وجه الدلالة من ذلك.
التيقن من أن القرآن من عند الله
قد ذكر العلماء أن الأصل في هذا: هو أن تعلم أن القرآن الذي هو مثلو محفوظ مرسوم في المصاحف هو الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه هو الذي تلاه على من في عصره ثلاثاً وعشرين سنة.
النقل المتواتر يؤكد ذلك
والطريق إلى معرفة ذلك هو النقل المتواتر الذي يقع عنده العلم الضروري به، وذلك أنه قام به في المواقف، وكتب به إلى البلاد، وتحمله عنه إليها من تابعه، وأورده على غيره من لم يتابعه، حتى ظهر فيهم الظهور الذي لا يشتبه على أحد، ولا يحتمل أنه قد خرج من أتى بقرآن يتلوه، ويأخذه على غيره ويأخذ غيره على الناس، حتى انتشر ذلك في أرض العرب كلها، وتعدى إلى الملوك المصاقبة لهم، كملك الروم والعجم والقبط والحبش وغيرهم من ملوك الأطراف.
اطلع أهل عصر النبي على القرآن وحفظوه
ولما ورد ذلك مضاداً لأديان أهل ذلك العصر كلهم، ومخالفاً لوجوه اعتقاداتهم المختلفة في الكفر، وقف جميع أهل الخلاف على جملته، ووقف جميع أهل دينه الذي أكرمهم الله بالإيمان على جملته وتفاصيله، وتظاهر بينهم حتى حفظه الرجال، وتنقلت به الرحال، وتعلمه الكبير والصغير، إذ كان عمدة دينهم، وعلماً عليه، والمفروض تلاوته في صلواتهم، والواجب استعماله في أحكامهم، ثم تناقله خلف عن سلف، ثم مثلهم، في كثرتهم وتوفر دواعيهم على نقله، حتى انتهى إلينا ما وصفنا من حاله.
لا مجال للشك في القرآن
فلن يتشكك أحد، ولا يجوز أن يتشكك مع وجود هذه الأسباب، في أنه أتى بهذا القرآن من عند الله، فهذا أصل.
القرآن تحدى العرب
وإذا ثبت هذا الأصل وجوداً فإنا نقول: إنه تحداهم إلى أن يأتوا بمثله، وقرعهم على ترك الإتيان به طول السنين التي وصفناها، فلم يأتوا بذلك.
والذي يدل على هذا الأصل أنا قد علمنا أن ذلك مذكور في القرآن، في المواضع الكثيرة، كقوله: "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبِ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأتُواْ بِسُورَةٍ مِن مِّثْلِهِ، وَادْعُواْ شَهدَاءَكُمِ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينْ، فَإِن لَّم تَفْعَلُواْ وَلَنْ تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتي وَقُودُها النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ للِّكَافِرِينَ".
وكقوله: "أم يَقُولُونَ افتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُورٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، وَادعُواْ مَن اسْتَطَعْتُم مِنْ دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُم فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُّنْزِلَ بِعِلِمِ اللَّهِ وأَنْ لاَّ إلهَ إلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون".
فجعل عجزهم عن الإتيان بمثله دليلاً على أنه منه، ودليلاً على وحدانيته، وذلك يدل عندنا على بطلان قول من زعم أنه لا يمكن أن يعلم بالقرآن الوحدانية، وزعم أن ذلك مما لا سبيل إليه إلا من جهة العقل، لأن القرآن كلام الله عز وجل، ولا يصح أن يعلم الكلام حتى يعلم المتكلم أولاً.
فقلنا إذا ثبت بما نبينه إعجازه، وأن الخلق لا يقدرون عليه، ثبت أن الذي أتى به غيرهم، وأنه صدق، وإذا كان كذلك كان ما يتضمنه صدقاً، وليس إذا أمكن معرفته من جهة العقل امتنع أن يعرف من الوجهين. وليس الغرض تحقيق القول في هذا الفصل، لأنه خارج عن مقصود كلامنا، ولكنا ذكرناه من جهة دلالة الآية عليه.
ومن ذلك قوله عز وجل: " قُلْ لًّئِن اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أن يَأْتُواْ بِمثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ ظَهيراً".
وقوله: " أمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لاَّ يُؤْمِنْونَ، فَلْيَأْتُواْ بِحَديثٍ مِّثْلِهِ إن كَانُواْ صادقين".
العرب لم تستجب للتحدي
فقد ثبت بما بيناه أنه تحداهم إليه، ولم يأتوا بمثله. وفي هذا أمران: أحدهما التحدي إليه، والآخر أنهم لم يأتوا له بمثل، والذي يدل على ذلك النقل المتواتر الذي يقع به العلم الضروري... فلا يمكن جحود واحد من هذين الأمرين.
اعتراضات على التحدي وإجابات عليها
وإن قال قائل: لعله لم يقرأ عليهم الآيات التي فيها ذكر التحدي، وإنما قرأ عليهم ما سوى ذلك من القرآن، كان كذلك قولاً باطلاً، يعلم بطلانه، مثل ما يعلم به بطلان قول من زعم: أن القرآن أضعاف هذا وهو يبلغ حمل جمل وأنه كتم وسيظهره المهدي.
أو يدعي أن هذا القرآن ليس هو الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو شيء وضعه عمر وعثمان رضي الله عنهما حيث وضع المصحف أو يدعي فيه زيادة أو نقصاناً.
ضمن الله حفظ كتابه
وقد ضمن الله حفظ كتابه أن يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، ووعده الحق. وحكاية قول من قال ذلك يغني عن الرد عليه، لأن العدد الذين أخذوا القرآن في الأمصار وفي البوادي وفي الأسفار والحضر، وضبطوه حفظاً من بين صغير وكبير، وعرفوه حتى صار لا يشتبه على أحد منهم حرف، لا يجوز عليهم السهو والنسيان، ولا التخليط فيه والكتمان، ولو زادوا ونقصوا أو غيروا لظهر.
لو حصل التبديل في شعر شاعر
لافتضح فكيف يحصل في القرآن:
وقد علمت أن شعر امرئ القيس وغيره لا يجوز أن يظهر ظهور القرآن، ولا أن يحفظ كحفظه، ولا أن يضبط كضبطه، ولا أن تمس الحاجة إليه مساسها إلى القرآن، لو زيد فيه بيت أو نقص منه بيت، لا بل لو غير فيه لفظ، لتبرأ منه أصحابه، وأنكره أربابه، فإذا كان ذلك مما لا يمكن شعر امرئ القيس ونظرائه مع أن الحاجة إليه تقع لحفظ العربية.
التبديل في القرآن لا يمكن أن يتم
فكيف يجوز أو يمكن ما ذكروه في القرآن مع شدة الحاجة إليه في أصل الدين، ثم في الأحكام والشرائع، واشتمال الهمم المختلفة على ضبطه، فمنهم من يضبطه لإحكام قراءته ومعرفة وجوهها وصحة أدائها، ومنهم من يحفظه للشرائع والفقه، ومنهم من يضبطه ليعرف تفسيره ومعانيه، ومنهم من يقصد بحفظه الفصاحة والبلاغة، ومن الملحدين من يحصله لينظر في عجيب شأنه.
كثرة المشتغلين في القرآن تمنع التغيير
وكيف يجوز على أهل هذه الهمم المختلفة، والآراء المتباينة، على كثرة أعدادهم، واختلاف بلادهم، وتفاوت أغراضهم، أن يجتمعوا على التغيير والتبديل والكتمان?.. ويبين ذلك أنك إذا تأملت ما ذكر في أكثر السور، مما بيناه ومن نظائره، في رد قومه عليه ورد غيرهم، وقولهم. " لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا"، وقول بعضهم: " إِنْ هَذَا إلاَّ اخْتِلاقٌ".
إلى الوجوه التي يصرف إليها قولهم في الطعن عليه: فمنهم من يستهين بها ويجعل ذلك سبباً لشركه الإتيان بمثله، ومنهم من يزعم أنه مفترى فلذلك لا يأتي بمثله، ومنهم من يزعم أنه دارس وأنه أساطير الأولين.
كراهية التطويل تمنعنا من ذكر آيات التحدي كلها
وكرهنا أن نذكر كل آية تدل على تحديه، لئلا يقع التطويل، ولو جاز أن يكون بعضه مكتوماَ جاز على كله، ولو جاز أن يكون بعضه موضوعاً جاز ذلك في كله.. فثبت بما بيناه أنه تحدى إليه.. وإنهم لم يأتوا له بمثل، وفي هذا الفصل قد بينا أن الجميع قد ذكروه وبنوا عليه، فإذا ثبت هذا وجب أن يعلم بعده أن تركهم للإتيان بمثله كان لعجزهم عنه.
الدليل على عجز العرب عن الإتيان بمثل القرآن
والذي يدل على أنهم كانوا عاجزين عن الإتيان بمثل القرآن أنه تحداهم إليه حتى طال التحدي، وجعله دلالة على صدقه ونبوته، وتضمن أحكامه استباحة دمائهم وأموالهم وسبي ذريتهم.. فلو كانوا يقدرون على تكذيبه لفعلوا، وتوصلوا إلى تخليص أنفسهم وأهليهم وأموالهم من حكمه، بأمر قريب هو عادتهم في لسانهم، ومألوف من خطابهم، وكان ذلك يغنيهم عن تكلف القتال، وإكثار المراء والجدال، وعن الجلاء عن الأوطان، وعن تسليم الأهل والذرية للسبي.. فلما لم يحصل هناك معارضة منهم، علم أنهم عاجزون عنها.
العدو يقصد لدفع قول عدوه بكل ما يقدر
يبين ذلك أن العدو يقصد لدفع قول عدوه بكل ما قدر عليه من المكايد، لاسيما مع استعظامه ما أبدعه بالمجيء من خلع آلهته، وتسفيه رأيه في ديانته، وتضليل آبائه، والتغريب عليه بما جاء به، وإظهار أمر يوجب الانقياد لطاعته، والتصرف على حكم إرادته، والعدول عن إلفه وعادته، والانخراط في سلك الاتباع بعد أن كان متبوعاً، والتشييع بعد أن كان مشيعاً، وتحكيم الغير في ماله، وتسليطه إياه على جملة أحواله، والدخول تحت تكاليف شاقة، وعبادات متعبة، بقوله.
بذلوا السيف والمال فكيف لا يردون عليه باللسان
وقد علم أن بعض هذه الأحوال مام يدعو إلى سلب النفوس دونه.. هذا والحمية حميتهم، والهمم الكبيرة هممهم، وقد بذلوا له السيف وأخطروا بنفوسهم وأموالهم، فكيف يجوز أن لا يتوصلوا إلى الرد عليه، وإلى تكذيبه بأهون سعيهم ومألوف أمرهم، وما يمكن تناوله من غير أن يعرق فيه جبين أو يشتغل به خاطر، وهو لسانهم الذي يتخاطبون به، مع بلوغهم في الفصاحة النهاية التي ليس وراءها مطلع، والرتبة التي ليس وراءاها منزع.
لو عارضوه لوهن أمره
ومعلوم أنهم لو عارضوه بما تحداهم إليه لكان فيه توهين أمره، وتكذيب قوله، وتفريق جمعه، وتشتيت أسبابه، وكان من صدق به يرجع على أعقابه، ويعود في مذهب أصحابه، فلما لم يفعلوا شيئاً من ذلك مع طول المدة، ووقع الفسحة، وكان أمره يتزايد حالاً فحالاً، ويعلو شيئاً فشيئاً، وهم على العجز عن القدح في آيته، والطعن في دلالته.
كانوا لا يقدرون على معارضته
علم مما بينا أنهم كانوا لا يقدرون على معارضته، ولا على توهين حجته، وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم قوم خصمون، وقال: "وَتُنْذِرَ بِهِ قَوماً لُدّاً"، وقال: "خَلَقَ الإنْسَانَ مِن نٌطْفَةٍ فإِذَا هُوَ خَصيمٌ مُبينٌ".
وعلم أيضاً أن ما كانوا يقولونه من وجوه اعتراضهم على القرآن، مما حكى الله عز وجل عنهم، من قولهم: "لَوْ نَشَاءُ لُقُلنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَّوَّلينَ".
وقولهم: "مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذا في آبائِنَا الأَّوَّلينَ".
وقالوا: "يَا أَيُّها الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ".
وقالوا: "أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ".
وقالوا: "أَئِنَّا لَتَارِكُواْ آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ"، "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هّذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ، وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرونَ، فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً"، "وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاُ"، "وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً".
وقوله: "الَّذِينَ جَعَلُواْ القُرآنَ عِضِيَن"، إلى آيات كثيرة في نحو هذا تدل على أنهم كانوا متحيرين في أمرهم، متعجبين من عجزهم، يفزعون إلى نحو هذه الأمور، من تعليل وتعذير، ومدافعة بما وقع التحدي إليه، وعرف الحث عليه .
طالبوا بمعجزات غير الفصاحة
وقد علم منهم أنهم ناصبوه الحرب، وجاهروه ونابذوه، وقطعوا الأرحام، وأخطروا بأنفسهم، وطالبوه بالآيات والإتيان بغير ذلك من المعجزات، يريدون تعجيزه، ليظهروا عليه بوجه من الوجوه، فكيف يجوز أن يقدروا على معارضته القريبة السهلة عليهم، وذلك حجته، ويفسد دلالته، ويبطل أمره، فيعدلون عن ذلك إلى سائر ما صاروا إليه، من الأمور التي ليس مزيد في المنابذة والمعاداة ويتركون الأمر الخفيف? هذا ما يمتنع وقوعه في العادات، ولا يجوز اتفاقه من العقلاء.
لو كانوا قادرين على المعارضة لم يجز لهم تركها
وإلى هذا قد استقصى أهل العلم الكلام، وأكثروا في هذا المعنى وأحكموه. ويمكن أن يقال إنهم لو كانوا قادرين على معارضته، والإتيان بمثل ما أتى به، لم يجز أن يتفق منهم ترك المعارضة، وهم على ما هم عليه من الذرابة والسلاقة والمعرفة بوجوه الفصاحة، وهو يستطيل عليهم بأنهم عاجزون عن مباراته، وأنهم يضعفون عن مجاراته، ويكرر فيما جاء به ذكرهم عجزهم عن مثل ما يأتي به ويقرّعهم ويؤنبهم عليه، ويدرك آماله فيهم، وينجح ما يسعى له بتركهم المعارضة، وهو يذكر فيما يتلوه تعظيم شأنه، وتفخيم أمره، حتى يتلو قوله تعالى: "قُلْ لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَن يَأَتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يأْتُونَ بِمثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهيراً".
وقوله: "يُنَزّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ، عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنا، فَاتَّقُونِ".
وقوله: "وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِن الْمَثانِي وَالْقُرآنَ الْعَظِيمَ".
وقوله: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ".
وقوله: "وَإِنَّهُ لَذِكرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوفَ تُسْئَلُونَ" وقوله: "هُدىً لّلْمُتَّقِينَ".
وقوله: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً، مَّثَانِيَ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يُخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ"، إلى غير ذلك من الآيات، التي تتضمن تعظيم شأن القرآن، مما يدعوهم في السورة في مواضع منها، ومنها ما ينفرد فيها، وذلك مما يدعوهم إلى المباراة، ويحضهم على المعارضة، وإن لم يكن متحدياً إليه.
??كانوا ينافرون شعراءهم لأنهم يقدرون
ألا ترى أنهم قد كان ينافر شعراؤهم بعضهم بعضاً، ولهم في ذلك مواقف معروفة، وأخبار مشهورة، وأيام منقولة، وكانوا يتنافسون على الفصاحة والخطابة والذلاقة، ويتبجحون بذلك، ويتفاخرون بينهم، فلن يجوز والحالة هذه أن يتغافلوا عن معارضته لو كانوا قادرين عليها، تحداهم إليها أو لم يتحدهم، ولو كان هذا القبيل ما يقدر عليه البشر لوجب في ذلك أمر آخر، وهو أنه لو كان مقدرواً للعباد لكان قد اتفق إلى وقت مبعثه من هذا القبيل ما كان يمكنهم أن يعارضوه به، وكانوا لا يفتقرون إلى تكلف وضعه، وتعمل نظمه في الحال.
لما لم نرهم عارضوه علم أنه لا سبيل إلى ذلك
فلما لم نرهم احتجوا عليه بكلام سابق، وخطبة متقدمة، ورسالة سالفة، ونظم بديع، ولا عارضوه به، فقالوا هذا أفصح مما جئت به، وأغرب منه، أو هو مثله، علم أنه لم يكن إلى ذلك سبيل، وأنه لو يوجد له نظير، ولو كان يوجد له مثل لكان ينقل إلينا ولعرفناه، كما نقل إلينا أشعار أهل الجاهلية، وكلام الفصحاء والحكماء من العرب، وأدى إلينا كلام الكهان وأهل الرجز والسجع والقصيد، وغير ذلك من أناوع بلاغاتهم، وصنوف فصاحاتهم.
فإن قيل: الذي بنى عليه الأمر في تثبيت معجزة القرآن أنه وقع التحدي إلى الإتيان بمثله، وأنهم عجزوا عنه بعد التحدي إليه.
فإذا نظر الناظر، وعرف وجه النقل المتواتر في هذا الباب، وجب له العلم بأنهم كانوا عاجزين عنه، وما ذكرتهم يوجب سقوط تأثير التحدي، وإن ما أتى به قد عرف العجز عنه بكل حال...
????????????????????????احتيج إلى التحدي لإقامة الحجة
قيل: إنما احتيج إلى التحدي لإقامة الحجة، وإظهار وجه البرهان، لأن المعجزة إذا ظهرت فإنما تكون حجة بأن يدعيها من ظهرت عليه، ولا تظهر على مدعٍ لها إلا وهي معلومة أنها من عند الله.
فإذا كان يظهر وجه الإعجاز فيها للكافة بالتحدي وجب فيها التحدي، لأنه تزول بذلك الشبهة على الكل، وينكشف للجميع أن العجز واقع عن المعارضة، وإلا فإن مقتضى ما قدمناه من الفصل أن من كان يعرف وجوه الخطاب، ويتقن مصارف الكلام، وكان كاملاً في فصاحته، جامعاً للمعرفة بوجوه الصناعة، لو أنه احتج عليه بالقرآن، وقيل له إن الدلالة على النبوة، والآية على الرسالة، ما أتلوه عليك منه لكان ذلك بلاغاً في إيجاب الحجة، وتماماً في إلزامه فرض المصير إليه.
الأكثرون لما ألزمهم إعجازه أسلموا
ومما يؤكد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا الآحاد إلى الإسلام، محتجاً عليهم بالقرآن، لأنا نعلم أنه لم يلزمهم تصديقه تقليداً، ونعلم أن السابقين الأولين إلى الإسلام لم يقلدوه، وإنما دخلوا على بصيرة، ولم نعلمه قال لهم: إرجعوا إلى جميع الفصحاء، فإن عجزوا عن الإتيان بمثله فقد ثبتت حجتي، بل لما رآهم يعلمون إعجازه ألزمهم حكمه فقبلوه، وتابعوا الحق وبادروا إليه مستسلمين، ولم يشكوا في صدقه، ولم يرتابوا في وجه دلالته، فمن كانت بصيرته أقوى، ومعرفته أبلغ، كان إلى القبول منه أسبق، ومن اشتبه عليه وجه الإعجاز، واشتبه عليه بعض شروط المعجزات، وأدلة النبوات، كان أبطأ إلى القبول، حتى تكاملت أسبابه، واجتمعت له بصيرته، وترادفت عليه مواده.
تفاوت الناس في إدراك القرآن ومعرفة وجه دلالته
وهذا فصل يجب أن يتم القول فيه بعد، فليس هذا وضع له... ويبين ما قلناه أن هذه الآية علم، يلزم الكل قبوله، والانقياد له، وقد علمنا تفاوت الناس في إدراكه ومعرفة وجه دلالته، لأن الأعجمي لا يعلم أنه معجز إلا بأن يعلم عجز العرب عنه؛ وهو يحتاج في معرفة ذلك إلى أمور لا يحتاج إليها من كان من أهل صنعة الفصاحة.
من عرف عجز أهل الصنعة لزمته الحجة
فإذا عرف عجز أهل الصنعة حل محلهم، وجرى مجراهم، في توجه الحجة عليه، وكذلك لا يعرف المتوسط من أهل اللسان من هذا الشأن ما يعرفه العالي في هذا الصنعة، فربما حل في ذلك محل الأعجمي، في أن لا تتوجه عليه الحجة حتى يعرف عجز المتناهي في الصنعة عنه. وكذلك لا يعرف المتناهي في معرفة الشعر وحده، أو الغاية في معرفة الخطب أو الرسائل وحدهما، غور هذا الشأن ما يعرف من استكمل معرفة جميع تصاريف الخطاب ووجوه الكلام، وطرق البراعة. فلا تكون الحجة قائمة على المختص ببعض هذه العلوم بانفرادها دون تحققه بعجز البارع في هذه العلوم كلها عنه.
من كان متناهياً في معرفة وجوه الخطابة عرف إعجاز القرآن
فأما من كان متناهياً في معرفة وجوه الخطاب، وطرق البلاغة، والفنون التي يمكن فيها إظهار الفصاحة، فهو متى سمع القرآن عرف إعجازه، وإن لم نقل ذلك أدى هذا القول إلى أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف إعجاز القرآن حين أوحي إليه حتى سبر الحال بعجز أهل اللسان عنه. وهذا خطأ من القول... فصح من هذا الوجه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أوحي إليه القرآن عرف كونه معجزاً، وبأن قيل له إنه دلالة وعلم على نبوتك.... إنه كذلك من قبل أن يقرأه على غيره، أو يتحدى إليه سواه.
ولذلك قلنا إن المتناهي في الفصاحة والعلم بالأساليب التي يقع فيها التفاصح، متى سمع عرف أنه معجز، لأنه يعرف من حال نفسه أنه لا يقدر عليه، ويعرف من حال غيره مثل ما يعرف من حال نفسه، فيعلم أن عجز غيره كعجزه هو، وإن كان يحتاج بعد هذا استدلال آخر على أنه علم على نبوة ودلالة على رسالة، بأن يقال له إن هذه آية لنبيه، وإنها ظهرت عليه وادعاها معجزة له وبرهاناً على صدقه.
اعتراض وردٌّ عليه
فإن قيل: فإن من الفصحاء من يعلم عجز نفسه عن قول الشعر، ولا يعلم مع ذلك عجز غيره عنه، فكذلك البليغ، وإن علم عجز نفسه عن مثل القرآن فهو قد يخفى عليه عجز غيره... قيل: هو مع مستقر العادة، وإن عجز عن قول الشعر، وعلم أنه مفحم، فإنه يعلم أن الناس لا ينفكون من وجود الشعراء فيهم.
?????متى علم البليغ عجزه عن القرآن علم عجز غيره
ومتى علم البليغ المتناهي في صنوف البلاغات عجزه عن القرآن علم عجز غيره، لأنه كهو، لأنه يعلم أن حاله وحال غيره في هذا الباب سواء، إذ ليس في العادة مثل للقرآن يجوز أن يعلم قدرة أحد من البلغاء عليه، فإذا لم يكن لذلك مثل في العادة، وعرف هذا الناظر جميع أساليب الكلام، وأنواع الخطاب، ووجد القرآن مبايناً لها، علم خروجه عن العادة، وجرى مجرى ما يعلم أن إخراج اليد البيضاء من الجيب خارج عن العادات، فهو لا يجوزه عن نفسه، وكذلك لا يجوز وقوعه من غيره إلا من وجه نقض العادة، بل يرى وقوعه موقع المعجزة.
وهذا وإن كان يفارق فلق البحر وإخراج اليد البيضاء ونحو ذلك، من وجه، وهو أنه يستوي الناس في معرفة عجزهم عنه، فكونه ناقضاً للعادة من غير تأمل شديد ولا نظر بعيد.
النظر في إعجاز القرآن يحتاج إلى تأمل
فإن النظر في معرفة إعجاز القرآن يحتاج إلى تأمل، ويفتقر إلى مراعاة مقدمات، والكشف عن أمور، نحن ذاكروها بعد هذا الموضع، فكل واحد منها يؤول إلى مثل حكم صاحبه في الجمع الذي قدمنا.
ومعنا يبين ذلك ما قلناه، من أن البليغ المتناهي في وجوه الفصاحة يعرف إعجاز القرآن، وتكون معرفته حجة عليه إذا تحدى إليه وعجز عن مثله، وإن لم ينتظر وقوع التحدي في غيره.
جبير بن مطعم أسلم لما سمع سورة الطور
وما الذي يصنع في ذلك الغير وهو ما روي في الحديث أن جبير بن مطعم ورد على النبي صلى الله عليه وسلم في معنى حليف له أراد أن يفاديه، فدخل والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة: "وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ" في صلاة الفجر، قال: فلما انتهى إلى قوله: "إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ، مَّا لَهُ مِنْ دَافِعٍ"، قال: خشيت أن يدركني العذاب. فأسلم. وفي حديث آخر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع سورة طه فأسلم.
عتبة بن ربيعة يسمع آية العذاب فيثب
وقد رُوي أن قوله عز وجل في أول "حم السجدة" إلى قوله: "فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُم فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ"، نزلت في شيبة وعتبة ابني ربيعة، وأبي سفيان بن حرب، وأبي جهل. وذكر أنهم بعثوا هم وغيرهم من وجوه قريش بعتبة بن ربيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليكلمه، وكان حسن الحديث، عجيب الشأن، بليغ الكلام، وأرادوا أن يأتيهم بما عنده، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة حم السجدة من أولها، حتى انتهى إلى قوله: "فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُم صَاعِقةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ"، فوثب مخافة العذاب، فاستحكوه ما سمع، فذكر أنه لم يسمع مثله كلمة واحدة، ولا اهتدى لجوابه، ولو كان ذلك من جنس كلامهم لم يخف عليه وجه الاحتجاج والرد، فقال له عثمان بن مظعون: لتعلموا أنه من عند الله، إذ لم يهتد لجوابه.
سماع القرآن حجة
وأبين من ذلك قول الله عز وجل: "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكينَ استَجَارَكَ فَأَجِرْهُ، حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ"، فجعل سماعه حجة عليه بنفسه فدل على أن فيهم من يكون سماعه إياه حجة عليه.
صوارف كفار العرب عن الإسلام كثيرة
فإن قيل؛ لو كان على ما قلتهم لوجب أن يكون حال الفصحاء الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم على طريقة واحدة في إسلامهم عند سماعه.
قيل: لا يجب ذلك، لأن صوارفهم كانت كثيرة: منها أنهم كانوا يشكّون: منهم من يشك في إثبات الصانع، ومنهم من يشك في التوحيد، ومنهم من يشك في النبوة، ألا ترى أن أبا سفيان بن حرب لما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليسلم، عام الفتح، قال له النبي عليه السلام: "أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله، قال: بلى، فشهد، قال: "أما آن لك أن تشهد أني رسول الله?" قال: أما هذه ففي النفس منها شيء.
من قلْت شكوكه وتأمل الحجة أسلم
فكانت وجوه شكوكهم مختلفة، وطرق شبههم متباينة، فمنهم من قلْت شبهه، وتأمل الحجة حق تأملها، ولم يستكبر، فأسلم، ومنهم من كثرت شبهه، وأعرض عن تأمل الحجة حق تأملها، أو لم يكن في البلاغة على حدود النهاية، فتطاول عليه الزمان إلى أن نظر واستبصر، وراعى واعتبر، واحتاج إلى أن يتأمل عجز غيره عن الإتيان بمثله، فلذلك وقف أمره، ولو كانوا في الفصاحة على مرتبة واحدة، وكانت صوارفهم وأسبابهم متفقة، لتوافوا إلى القبول جملة واحدة.
كيف يعرف البليغ إعجاز القرآن
فإن قيل: فكيف يعرف البليغ الذي وصفتموه إعجاز القرآن? وما الوجه الذي يتطرق به إليه، والمنهاج الذي يسلكه، حتى يقف به على جلية الأمر فيه? قيل: هذا سبيله أن يفرد له فصل.....
اعترض بعضهم فقال البلغاء لم يعجزوا ولكن الله صرفهم
فإن قيل: فلمَ زعمتم أن البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله، مع قدرتهم على صنوف البلاغات، وتصرفهم في أجناس الفصاحات? وهلاّ قلتم: إن من قدر على جميع هذه الوجوه البديعة، وتوجه من هذه الطرق الغريبة، كان على مثل نظم القرآن قادراً، وإنما يصرفه الله عنه ضرباً من الصرف، أو يمنعه من الإتيان بمثله ضرباً من المنع، أو تقصر دواعيه مع قدرته عليه، ليتكامل ما أراده الله من الدلالة، ويحصل ما قصده من إيجاب الحجة، لأن من قدر على نظم كلمتين بديعتين لم يعجز عن نظم مثلهما، وإذا قدر على ذلك قدر على ضم الثانية إلى الأولى، وكذلك الثالثة، حتى يتكامل قدر الآية والسورة.
الجواب على الاعتراض
فالجواب: أنه لو صح ذلك ، صح لكل من أمكنه نظم ربع بيت، أو مصراع من بيت، أن ينظم القصائد، ويقول الأشعار... وصح لكل ناطق، قد يتفق في كلامه الكلمة البديعة، نظم الخطب البليغة، والرسائل العجيبة، ومعلوم أن ذلك غير سائغ، ولاممكن...
على أن ذلك لو لم يكن معجزاً على ما وصفناه من جهة نظمه الممتنع لكان مهما حط من رتبة البلاغة فيه، ووضع من مقدار الفصاحة في نظمه، أبلغ في الأعجوبة، إذ صرفوا عن الإتيان بمثله، ومنعوا عن معارضته، وعدلت دواعيهم عنه، فكان يستغني عن إنزاله على النظم البديع، وإخراجه في المعرض الفصيح العجيب. على أنه لو كانوا صرفوا على ما ادعاه، لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة، وحسن النظم، وعجيب الرصف، لأنهم لم يتحدوا إليه، ولم تلزمهم حجته... فلما لم يوجد في كلام من قبله مثله، علم أن ما ادعاه القائل بالصرفة ظاهر البطلان.
جواب آخر
وفيه معنى آخر: وهو أن أهل الصنعة في هذا الشأن إذا سمعوا كلاماً مطمعاً لم يخف عليهم، ولم يشتبه لديهم، ومن كان متناهياً في فصاحته لم يجز أن يطمع في مثل هذا القرآن بحال.
فإن قال صاحب السؤال: إنه قد يطمع في ذلك. قيل له: أنت تزيد على هذا، فتزعم أن كلام الآدمي قد يضارع القرآن وقد يزيد عليه في الفصاحة، ولا يتحاشاه، ويحسب أن ما ألفه في الجزء والطفرة هو أبدع وأغرب من القرآن لفظاً ومعنى، ولكن ليس الكلام على ما يقدره مقدر في نفسه، ويحسبه ظان من أمره، والمرجوع في هذا إلى جملة الفصحاء، دون الآحاد.
ونحن نبين بعد هذا وجه امتناعه عن الفصيح البليغ، وتميزه في ذلك عن سائر أجناس الخطاب، ليعلم أن ما يقدره من مساواة كلام الناس به تقدير ظاهر الخطأ، بيِّن الغلط، وإن هذا التقدير من جنس من حكى الله تعالى في محكم كتابه: "إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتَلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرَ".
فهم يعبرون عن دعواهم أنهم يمكنهم أن يقولوا مثله بأن ذلك من قول البشر، لأن ما كان من قولهم فليس يقع في التفاصيل إلى الحد الذي يتجاوز إمكان معارضته.
بطلان القول بالصرفة
ومما يبطل ما ذكروه من القول بالصرفة: أنه لو كانت المعارضة ممكنة وإنما منع منها الصرفة لم يكن الكلام معجزاً، وإنما يكون المنع معجزاً؛ فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه.
وليس هذا بأعجب مما ذهب إليه فريق منهم: أن الكل قادرون على الإتيان بمثله، وإنما يتأخرون عنه لعدم العلم بوجه ترتيب ، لو تعلموه لوصلوا إليه به.
ولا بأعجب من قول فريق منهم: إنه لا فرق بين كلام البشر، وكلام الله تعالى في هذا الباب، وإنه يصح من كل واحد منهما الإعجاز على حد واحد.
التوراة والإنجيل والصحف ليست معجزة في النظم
فإن قيل: فهل تقولون بأن غير القرآن من كلام الله عز وجيل معجز: كالتوراة والإنجيل والصحف? قيل: ليس شيء من ذلك بمعجز في النظم والتأليف. وإن كان معجزاً كالقرآن فيما يتضمن من الأخبار بغيوب، وإنما لم يكن معجزاً لأن الله تعالى لم يصفه بما وصف به القرآن، ولأنا قد علمنا أنه لم يقع التحدي إليه كما، وقع التحدي إلى القرآن.
وهي ليست معجزة لمعنى آخر
ولمعنى آخر وهو أن ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي إلى حد الإعجاز، ولكنه يتقارب. وقد رأيت أصحابنا يذكرون هذا في سائر الألسنة، ويقولون ليس يقع فيها من التفاوت ما يتضمن التقديم العجيب.
بيان انفراد العربية بالإعجاز
ويمكن بيان ذلك بأنا لا نجد في القدر الذي نعرفه من الألسنة للشيء الواحد من الأسماء ما تعرف من اللغة العربية، وكذلك لا نعرف فيها الكلمة الواحدة تتناول المعاني الكثيرة على ما تتناوله العربية، وكذلك التصرف في الاستعارات والإشارات ووجوه الاستعمالات البديعة التي يجيء تفصيلها بعد هذا.
وصف الله القرآن بأنه بلسان عربي
ويشهد لذلك من القرآن أن الله تعالى وصفه بأنه: "بِلسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ"، وكرر ذلك في مواضع كثيرة، وبين أنه رفعه عن أن يجعله أعجمياً، فلو كان في لسان العجم إيراد مثل فصاحته لم يكن ليرفعه عن هذه المنزلة، وإنه وإن كان يمكن أن يكون من فائدة قوله إنه "عربي مبين" أنه مما يفهمونه، ولا يفتقرون فيه إلى الرجوع إلى غيرهم، ولا يحتاجون في تفسيره إلى من سواهم، فلا يمتنع أن يفيد ما قلنا أيضاً، كما أفاد بظاهره ما قدمناه.
من عرف العربية وغيرها أدرك العربية بالفصاحة
ويبين ذلك أن كثيراً من المسلمين قد عرفوا تلك الألسنة، وهم من أهل البراعة فيها في العربية، فقد وقفوا على أنه ليس يقع فيها من التفاضل والفصاحة ما يقع في العربية.
أهل التوراة والإنجيل لم يدعوا الإعجاز لكتابهم
ومعنى آخر: وهو إنا لم نجد أهل التوراة والإنجيل ادعوا الإعجاز لكتابهم، ولا ادعى لهم المسلمون، فعلم أن الإعجاز مما يختص به القرآن... ويبين هذا أن الشعر لا يتأتى في تلك الألسنة على ما قد اتفق في العربية، وإن كان قد يتفق منها صنف أو أصناف ضيقة، لم يتفق فيها من البديع ما يمكن ويتأتى في العربية، وكذلك لا يتأتى في الفارسية جميع الوجوه التي يتبين فيها الفصاحة على ما يأتي في العربية.
زعم بعضهم أن كتاب زرداشت وماني معجزان
فإن قيل: فإن المجوس تزعم أن كتاب زرداشت وكتاب ماني معجزان... قيل: الذي يتضمنه كتاب ماني من طريق النيرنجات وضروب من الشعوذة، ليس يقع فيها إعجاز. ويزعمون أن في الكتاب الحكم، وهي حكم منقولة متداولة على الألسن لا تختص بها أمة دون أمة، وإن كان بعضهم أكثر اهتماماً بها، وتحصيلاً لها، وجمعاً لأبوابها.
ادعى بعضهم أن ابن المقفع عارض القرآن
وقد ادعى قوم أن ابن المقفع عارض القرآن، وإنما فزعوا إلى الدرة اليتيمة وهما كتابان: أحدهما يتضمن حكماً منقولة، توجد عند حكماء كل أمة مذكورة بالفضل، فليس فيها شيء بديع من لفظ ولا معنى، والآخر: في شيء من الديانات، وقد تهوس فيه بما لا يخفى على متأمل.
وكتابه الذي بيناه في الحكم منسوخ من كتاب بزرجمهر في الحكمة، فأي صنع له في ذلك، وأي فضيلة حازها فيما جاء به?
لا يوجد لابن المقفع كتاب يدعي مدع
أنه عارض القرآن
وبعد فليس يوجد له كتاب يدعى مدع انه عارض فيه القرآن، بل يزعمون أنه اشتغل بذلك مدة ثم مزق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره، فإن كان كذلك فقد أصاب، وأبصر القصد. ولا يمتنع أن يشتبه عليه الحال في الابتداء، ثم يلوح له رشده، ويبين له أمله، ويتكشف له عجزه، ولو كان بقي على اشتباه الحال عليه لم يخف علينا موضع غفلته، ولم يشتبه لدينا وجه شبهته... ومتى أمكن أن تدعي الفرس في شيء من كتبهم أنه معجز في حسن تأليفه وعجيب نظمه?